الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {ألهاكم التكاثر} أَي شغلكُم التغالبُ في الكثرةِ وَالتفاخرُ بَها. رُوِىَ أنَّ بَنِي عبدِ مَنَافٍ وبَنِي سَهْمٍ تَفَاخرُوا وَتعادُّوا وَتكاثرُوا بالسَّادةِ والأشرافِ في الإسلامِ فقال كلٌّ منَ الفريقينِ نحنُ أكثرُ منكُم سيدًا وأعزُّ عزيزًا وَأعظمُ نفرًا فكثرَهُمْ بنُو عبدِ مَنَافٍ فَقال بنُو سَهْمٍ إِنْ البغَي أفنانَا في الجَاهليةِ فعادُّونَا بِالأَحياءِ وَالأَمْواتِ فكثَرهُمْ بنُو سَهْمٍ وَالمَعنى أنكُم تكاثرتُمْ بالأَحياءِ {حتى زُرْتُمُ المقابر} أيْ حَتَّى إذَا استوعبتُمْ عددهُم صْرِتُمْ إِلى التفاخرِ والتكاثرِ بالأمواتِ فعبرَ عنْ بلوغِهم ذكرَ المَوتى بزيارةِ القبورِ تهكُمًا بِهمْ وقيلَ كَانُوا يزورونَ المقابَر فيقولونَ هَذَا قبرُ فُلانٍ وهَذا قبرُ فُلانٍ يفتخرونَ بذلكَ وقيلَ: المَعْنى ألهاكُم التكاثُر بالأموالِ وَالأولادِ إلى أَنْ متمْ وقبرتمْ مضيعينَ أعمارَكُم في طلبِ الدُّنيا معرضينَ عَمَّا يهمكُم من السعي لأُخرَاكُم فتكونُ زيارةُ القبورِ عبارةً عنِ الموتِ وقرئ أألهاكُم عَلى الاستفهامِ التقريريِّ {كَلاَّ} رَدْعٌ وتنبيهٌ عَلَى أنَّ العاقَل بنبغي أنْ لا يكونَ معظمُ هَمِّه مقصُورًا عَلى الدُّنيا فإنَّ عاقبةَ ذلكَ وخَيمةٌ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} سوءَ مغبةِ مَا أنتُم عليهِ إذَا عاينتُمْ عاقبَتهُ.{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكريرٌ للتأكيدِ وثمَّ للدلالةِ عَلَى أَنَّ الثَّانِي أبلغُ منَ الأولِ أوِ الأولُ عندَ الموتِ أو في القبرِ والثَّانِي عندَ النشورِ {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أَيْ لَوْ تعلمونَ ما بينَ أيديكُم علَم الأمر اليقينِ أيْ كعلمكِم ما تستيقنونَهُ لفعلتُم ما لاَ يُوصفُ ولاَ يكتنهُ فحذفَ الجوابَ للتهويلِ وقوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جوابُ قسمٍ مضمرٍ أُكِّدَ بهِ لَهُ الوعيدُ وشددَ بهِ التهديدُ وأوضحَ بِهِ مَا أُنذروُه بعدَ إبهامِهِ تفخيمًا.{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} تكريرٌ للتأكيدِ أوِ الأولى إذَا رأتهُمْ منْ مكانٍ بعيدٍ والثانيةُ إذَا وردُوَها أوِ المرادُ بِالأولى المعرفةُ وبالثانيةِ المشاهدةُ والمعاينةُ {عَيْنَ اليقين} أَيِ الرؤيةُ التي هيَ نفسُ اليقينِ فإنَّ علمَ المشاهدةِ أَقْصى مراتبِ اليقينِ {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} أيْ عنِ النعيمِ الذي ألهاكُم الالتذاذُ بهِ عنِ الدينِ وتكاليفِه فإنَّ الخطابَ مخصوصٌ بمنْ عكفَ همتَهُ عَلى استيفاءِ اللذاتِ وَلَمْ يعشْ إلاَّ ليأكلَ الطيبَ ويلبسَ اللينَ ويقطعَ أوقاتَهُ باللهوِ والطَّرَبِ لاَ يعبأُ بالعلمِ وَالعملِ ولا يحملُ نفسَهُ مشاقهما فأمَّا منْ تمتعَ بنعمةِ الله تعالى وتقوَّى بَها عَلى طاعتِهِ وكانَ ناهضًا بالشكرِ فهُوَ منْ ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ وَقيلَ الآيةُ مخصوصةٌ بالكفارِ. اهـ..قال الألوسي: {ألهاكم}أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاعر في كل شاغر وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيرًا وقال الراغب اللهو ما يشغلك عما يعني ويهم وقيل ليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين {التكاثر} أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر.{حتى زُرْتُمُ المقابر} حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر من فيها فتكاثرتم بالأموات فالغاية داخلة في المغيا وقد تقدم من سبب النزول ما يوضح ذلك.وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددًا فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم أن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالإحياء والأموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ما تقدم على ظاهرها وأما على هذا فقد عبر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازًا واستحسن جعله تمثيلًا وفي (الكشاف) عبر بذلك عما ذكر تهكمًا بهم ووجهه بعض بأنه كأنه قيل أنتم في عفلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سببًا للغفلة وهذا أولى والمعنى {ألهاكم} ذلك وهو لا يعنيكم ولايجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم وحذف الملهى عنه للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار إلى أن ما يلهي مذموم فضلًا عن الملهى عن أمر الدين وقيل المراد {ألهاكم التكاثر} بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق إليها والتهالك عليها إلى أتاكم الموت لا هم لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر:وقال جرير: وفي ذلك إشارة إلى تحقيق البعث.يحكى أن أعرابيًا سمع ذلك فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائد منصرف لا مقيم وعن مر بن عبد العزيز أنه قال لابد لمن زاد أن يرجع إلى جنة أو نار وفيه أضيًا إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغليب من مات أولًا أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم.ومما يقضي منهم العجب قول أبي مسلم أن الله عز وجل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرًا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور تكثرًا بمن سلف ومباهاة وتفاخرًا به لا اتعاظًا وتذكرًا للآخرة كما هو المشروع ويشير إليه خبر أبي داود نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ولا يخفى أن الآية بمعزل عن ذلك نعم لا كلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين إلى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع ما لهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع إلى أمور تضيق عنها صدور السطور.وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة {آلهاكم} بالمد على الاستفهام وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس أيضًا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية {أألهاكم} بهمزتين والاستفهام للتقرير.{كَلاَّ} ردع عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيه على الخطا فيه لأن عاقبته وخيمة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد.{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لا تفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف وإلا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم أن المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه.وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الأول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف وقال الضحاك الزجر الأول ووعيده للكافرين وما بعد للمؤمنين وهو خلاف الظاهر.{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور فالعلم مضاف للمفعول و{اليقين} بمعنى المتيقن صفة لمقدر وجوز أبو حيان كون الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب لو محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك.وقوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جواب قسم مضمر أكد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيمًا ولا يجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لأنه محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك وقيل يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه: {لو تعلمون} الجزاء {علم اليقين} الآن {لترون الجحيم} يعني تكون الجحيم دائمًا في نظركم لا تغيب عنكم وهو ترى.{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الأبلغية وجوز أن تكون الرؤية الأولى إذا رأتهم من بعيد والثاني إذا وردوها أو إذ دخلوها أو الأولى إذا وردوها والثانية إذا دخلوها أو الأولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة إشارة إلى الخلود وهذا نحو التثنية في وقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] وهو خلاف الظاهر جدًا.{عَيْنَ اليقين} أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صففة مصدر مثدر أي رأية عين اليقين والعامل فيه لترونها وجوز أن يكون متنازعًا فيه للفاعلين قبله وفي إطلاقه كلام لا أظنه يخفى عليك.و{اليقين} في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لا شك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء إنه كذا مع اعقاد أنه لا يمكن إلا كذا اعتقادًا مطابقًا للواقع غير ممكن الزوال وقال الراغب اليقيم من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخواتهما يقال: {علم يقين} ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم وفسر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال علي سبيل التمثيل علم كل عاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين الملائكة عليهم السلام فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ولهم غير ذلك ومبنى أكثر ما قالوه على الاصطلاح فلا تغفل.وقرأ ابن عامر والكسائي {لترون} بضم التاء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في {لترون} وضمها في {لترونها} ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما وروي عن الحسن وأبي عمر وبخلاف عنهما أنهما همزًا الواوين ووجه بأنهم اسثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في {وقتت} وكان القياس ترك الهمز لأن الضمة حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمن الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو {اشترؤوا الضلالة} [البقرة: 16] فالهمز من هذه أولى.{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم}قيل الخطاب للكفار وحكى ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي والنعيم عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في {لترون الجحيم} [التكاثر: 6] للمشركين وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشكروا ذلك بالإيمان به عز وجل والسؤال قيل يجوز أن يكون بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى: {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} [الملك: 8] وقوله سبحانه: {ما سلككم في سقر} [المدثر: 42] وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلامًا وادعى للاعتراف بالتقصير فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثم للترتيب الذكرى وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في {ألهاكم} إلخ للمهلين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله} [الأعراف: 32] و{كلوا من الطيبات} [المؤمنون: 51] وهذا أيضًا يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمينن وقيل الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال فاخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعًا هو الأمن والصحة.وأخرج البيهقي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه قال النعيم العافية.وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعًا «أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا».وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعًا «النعيم المسؤول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه».وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسره قال: «الخصاف والماء وفلق الكسر»وروي عنه وعن جابر أنه «ملاذ المأكول والمشروب».وقال الحسين بن الفضل هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن.ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه قال ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى: {لتسئلن يومئذ عن النعيم} فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك ادخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وسقيته اتمن عليه قلت لا قال فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه قلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا} [آل عمران: 164].ومن رواية العياش من الإمامية أيضًا ان أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه قال لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية ما النعيم عندك يا نعمان فقال القوت من الطعام والماء البارد فقال أبو عبد الله: لئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه فقال أبو حينفة فما النعيم قال نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألف الله تعالى بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا بعد ان كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حث النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعثرته عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسئل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر.كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي هريرة قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فأتى رجلًا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى الله عليه وسلم المرأة قالت مرحبًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة».وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته مرحبًا بنبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فجاء أبو أيوب فقطع عذقًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره قال أحببت يا رسول الله إن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه ثم ذبح جديًا فشوي نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال يا أبا أيوب ابلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ان هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى ثم لتسألن يوئذ عن النعيم فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفافبذاك».وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقًا فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعًا وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية.وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لابد منه أولًا لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفًا إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعًا عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به» لأن كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام.ويشكل عليه ما أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى به عورته».وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن وقيل المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبرًا لقلبة وازالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم. اهـ.
|